فصل: سئل: عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلي‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل عن المريض إذا قالت له الأطباء‏:‏ مالك دواء غير أكل لحم الكلب، أو الخنزير‏.‏ فهل يجوز له أكله مع قوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها‏)‏ ‏؟‏ وإذا وصف له الخمر أو النبيذ‏:‏ هل يجوز شربه مع هذه النصوص أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز التداوي بالخمر وغيرهـا مـن الخبائث، لما رواه وائل بن حجر؛ أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال‏:‏ إنما أصنعها للدواء‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنه ليس بـدواء،ولكـنه داء‏)‏‏.‏رواه الإمام أحمد،ومسلم في صحيحه‏.‏وعن أبي الدرداء قـال‏:‏ قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله أنـزل الدواء، وأنزل الـداء، وجعـل لكـل داء دواء، فتـداووا ولا تتـداووا بحـرام‏)‏‏.‏ رواه أبو داود، وعـن أبي هريرة قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عـن الـدواء بالخـبيث‏.‏ وفي لفـظ‏:‏ يعني السـم‏.‏ رواه / أحمـد وابن ماجـه والترمذي‏.‏

وعن عبد الرحمن بن عثمان قال‏:‏ ذكر طبيب عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دواء، وذكر الضفدع تجعل فيه، فنهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي‏.‏ وقال عبد اللّه بن مسعود في السكر‏:‏ إن اللّه لم يجعل شفاءكم بما حرم عليكم‏.‏ ذكره البخاري في صحيحه‏.‏ وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه النصوص وأمثالها صريحة في النهي عن التداوي بالخبائث، مصرحة بتحريم التداوي بالخمر إذ هي أم الخبائث، وجماع كل إثم‏.‏

والخمر اسم لكل مسكر، كما ثبت بالنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم في صحيحه، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قلت‏:‏ يارسول اللّه، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن‏:‏ البتع، وهو من العسل، ينبذ حتى يشتد، والمزر‏:‏ وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد‏؟‏ وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم، فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏

وكذلك في الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ سئل رسول اللّه / صلى الله عليه وسلم عن البتع ـ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه ـ فقال‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر، فهو حرام‏)‏‏.‏ ورواه مسلم في صحيحـه، والنسائي، وغـيرهما، عـن جـابر؛ أن رجـلا من حبشان من اليمن سأل رســول اللّه صلى الله عليه وسلم عـن شـراب يشربونـه بأرضهم من الذرة، يقال له‏:‏ المزر، فقال‏:‏ أمسكر هو‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام، إن على اللّه عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏ الحديث‏.‏ فهذه الأحاديث المستفيضة صريحة بأن كل مسكر حرام، وأنه خمر من أي شيء كان، ولا يجوز التداوي بشيء من ذلك‏.‏

وأمـا قول الأطباء‏:‏ إنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعين، فهذا قول جاهل، لا يقـولـه مـن يعلم الطب أصلا، فضـلا عمـن يعـرف اللّه ورسـولـه‏.‏ فـإن الشفاء ليس في سبـب معـين يوجبه في العادة، كما للشبـع سبب معـين يوجبـه في العادة، إذ من الناس مـن يشفيـه الله بـلا دواء، ومنهم مـن يشفيه اللّه بالأدوية الجثمانية، حلالها وحـرامها، وقـد يسـتعمل فــلا يحصل الشفاء لفوات شرط، أو لوجود مانع، وهذا بخـلاف الأكـل، فإنـه سبب للشبع‏.‏ولهذا أباح اللّه للمضطر الخبائث أن يأكلها عند الاضطـرارإليها في المخمصـة، فـإن الجـوع يزول بها، ولا يزول بغيرها، بل يموت أو يمرض مـن الجـوع، فلما تعـينت طـريقاً /إلى المقصـود، أباحـها اللّه، بخلاف الأدوية الخبيثة‏.‏

بل قد قيل‏:‏ من استشفي بالأدوية الخبيثة، كان دليلا على مرض في قلبه، وذلك في إيمانه‏.‏ فإنه لو كان من أمة محمد المؤمنين، لما جعل اللّه شفاءه فيما حرم عليه، ولهذا إذا اضطرإلى الميتة ونحوها، وجب عليه الأكل في المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة، وأما التداوي، فلا يجب عند أكثر العلماء بالحلال، وتنازعوا‏:‏ هل الأفضل فعله أو تركه على طريق التوكل ‏؟‏

ومما يبين ذلك‏:‏ أن اللّه لما حـرم الميتـة والدم ولحم الخنزير، وغيرها، لم يبح ذلك إلا لمن اضطـرإليها غير باغ ولا عاد‏.‏ وفي آية أخري‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ومعلوم أن المتداوي غير مضطرإليها، فعلم أنها لم تحل له‏.‏

وأما ما أبيح للحـاجة لا لمجرد الضرورة ـ كلباس الحرير ـ فقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبـي صلى الله عليه وسلم رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير، لحكة كانت بهما‏.‏ وهذا جائز على أصح قولي العلماء؛ لأن لبس الحرير إنما حرم عند الاستغناء عنه‏.‏ ولهذا أبيح للنساء لحاجتهن إلى التزين به، وأبيح لهن التستر به مطلقا فالحاجةإلى التداوي به كذلك، بل أولى، وهذه حرمت لما فيها من / السرف والخيلاء والفخر، وذلك منتف إذا احتيج إليه، وكذلك لبسها للبرد، أو إذا لم يكن عنده ما يستتر به غيرها‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏

هل الشرع المطهر ينكر ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها وجولان بوارقها على بني آدم، واعتراضها‏؟‏ فهل ذلك معالجة بالمخرقات والأحراز، والعزائم، والأقسام، والرقى، والتعوذات، والتمائم‏؟‏ وأن بعض الناس قال‏:‏ لا يحكم عليهم؛ لأن الجن يرجعون إلى الحقائق عند عامرة الأجساد بالبوار، وأن هذه الخواتم المتخذة مع كل إنسان من سرياني، وعبراني، وعجمي، وعربي، ليس لها برهان، وأنها من مختلق الأقاويل، وخرافات الأباطيل، وأنه ليس لأحد من بني آدم من القوة، ولا من القبض بحيث يفعل ما ذكرنا من متولي هذا الشأن على ممر الدهور، والأوقات ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، وجود الجن ثابت بكتاب اللّه، وسنة رسوله، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها‏.‏ وكـذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ وفي / الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم‏)‏‏.‏ وقال عبد اللّه بن الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن أقواما يقولون‏:‏ إن الجني لا يدخل في بدن المصروع، فقال‏:‏ يا بني يكذبون، هذا يتكلم على لسانه‏.‏

وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيما‏.‏ والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله‏.‏ وقد يجر المصروع، وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها، أفادته علماً ضروريا، بأن الناطق على لسان الإنسي، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان‏.‏

وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعي أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك‏.‏

وأما معالجة المصروع بالرقى والتعوذات، فهذا على وجهين‏:‏

/فإن كانت الرقى والتعاويذ مما يعرف معناها، ومما يجوز في دين الإسلام أن يتكلم بها الرجل، داعياً للّه، ذاكراً له، ومخاطباً لخلقه، ونحو ذلك ـ فإنه يجوز أن يرقى بها المصروع، ويعوذ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أذن في الرقى، ما لم تكن شركا‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل‏)‏‏.‏

وإن كان في ذلك كلمات محرمة مثل أن يكون فيها شرك، أو كانت مجهولة المعنى، يحتمل أن يكون فيها كفر، فليس لأحد أن يرقى بها ولا يعزم، ولا يقسم‏.‏ وإن كان الجني قد ينصرف عن المصروع بها، فإن ما حرمه اللّه ورسوله ضرره أكثر من نفعه، كالسيما وغيرها من أنواع السحر‏.‏ فإن الساحر السيماوي وإن كان ينال بذلك بعض أغراضه، كما ينال السارق بالسرقة بعض أغراضه، وكما ينال الكاذب بكذبه وبالخيانة بعض أغراضه، وكما ينال المشرك بشركه وكفره بعض أغراضه، وهؤلاء وإن نالوا بعض أغراضهم بهذه المحرمات، فإنها تعقبهم من الضرر عليهم في الدنيا والآخرة أعظم مما حصلوه من أغراضهم‏.‏

فإن اللّه بعث الرسل بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فكل ما أمر اللّه به ورسوله، فمصلحته راجحة على مفسدته، ومنفعته راجحة على المضرة‏.‏ وإن كرهته النفوس‏.‏ كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عليكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏216‏]‏ فأمر بالجهاد وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه، بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء‏.‏ وكذلك التاجر الذي يتغرب عن وطنه، ويسهر، ويخاف، ويتحمل هذه المكروهات، مصلحة الربح الذي يحصل له راجحة على هذه المكاره‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات‏)‏‏.‏وقد قال تعالـي في حق الساحر‏:‏ ‏{‏وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ فبين سبحانه أن هؤلاء يعلمون أن الساحر ما له في الآخرة من نصيب‏.‏ وإنما يطلبون بذلك بعض أغراضهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ آمنوا واتقوا بفعل ما أمر اللّه به، وترك ما نهى اللّه عنه، لكان ما يأتيهم به على ذلك في الدنيا والآخرة خير لهم مما يحصل لهم بالسحر‏.‏ قال اللّه تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً‏}‏ / الآيتين ‏[‏النحل‏:‏ 41، 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201،202‏]‏‏.‏

والأحاديث فيما يثيب اللّه عبده المؤمن على الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة كثيرة جداً، وليس للعبد أن يدفع كل ضرر بما شاء، ولا يجلب كل نفع بما شاء، بل لا يجلب النفع إلا بما فيه تقوي اللّه، ولا يدفع الضرر إلا بما فيه تقوي اللّه، فإن كان ما يفعله من العزائم والأقسام والدعاء والخلوة والسهر ـ ونحو ذلك مما أباحه اللّه ورسوله ـ فلا بأس به، وإن كان مما نهى اللّه عنه ورسوله لم يفعله‏.‏

فمن كذب بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر، وما يأتون به على اختلاف أنواعه؛ كدعاء الكواكب، وتخريج القوي الفعالة السماوية بالقوي المنفعلة الأرضية، وما ينزل من الشياطين على كل أفاك أثيم، فالشياطين التي تنزل عليهم، ويسمونها روحانية الكواكب وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس، وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام، وأمثال ذلك، كما هو موجود، فقد كذب بما لم يحط به علماً‏.‏

ومن جوز أن يفعل الإنسان بما رآه مؤثراً من هذه الأمور من غير أن يزن ذلك بشريعة الإسلام، فيفعل ما أباحه اللّه، ويترك / ما حرم اللّه، وقد دخل فيما حرمه اللّه ورسوله، إما من الكفر، وإما من الفسوق، وإما العصيان، بل على كل أحد أن يفعل ما أمر اللّه به ورسوله، ويترك ما نهى اللّه عنه ورسوله‏.‏

ومما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من التعوذ‏.‏ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، لم يزل عليه من اللّه حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يصبح‏)‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ أنه كان يعلم أصحابه أن يقول أحدهم‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات اللّه التامات من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون‏)‏‏.‏ ولما جاءته الشياطين بلهب من نار، أمر بهذا التعوذ‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن‏)‏‏.‏ فقد جمع العلماء من الأذكار والدعوات التي يقولها العبد إذا أصبح، وإذا أمسي، وإذا نام، وإذا خاف شيئاً، وأمثال ذلك من الأسباب ما فيه بلاغ‏.‏ فمن سلك مثل هذه السبيل، فقد سلك سبيل أولىاء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومن دخل في سبيل أهل الجبت والطاغوت الداخلة في الشرك والسحر فقد خسر الدنيا والآخرة،وبذلك /ذم اللّه من ذمه من مبدلة أهل الكتاب‏.‏ حيث قال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏101،102‏]‏‏.‏ والله ـ سبحانه وتعالي ـ أعلم‏.‏

وقَال أيضاً ـ رحمه اللّه ـ في موضع آخر‏:‏

 فصل

وأما كونه لم يتبين له كيفية الجن ومقالتهم بعدم علمه، لم ينكر وجودهم إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة، غير دلالة الكتاب والسنة‏.‏ فإن من الناس من رآهم وفيهم من رأي من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين‏.‏ ومن الناس من كلمهم وكلموه‏.‏ ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم‏.‏ وهذا يكون لصالحين، وغير صالحين‏.‏

ولو ذكرت ما جري لي، ولأصحابي معهم،لطال الخطاب‏.‏ وكذلك / ما جري لغيرنا، لكن الاعتماد في الأجوبة العلمية على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون لما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به‏.‏

 وسئل عمن يقول‏:‏ يا أزران‏:‏ ياكيان ‏!‏ هل صح أن هذه أسماء وردت بها السنة، لم يحرم قولها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، لم ينقل هذه عن الصحابة أحد، لا بإسناد صحيح، ولا بإسـناد ضعيف، ولا سلف الأمة، ولا أئمتها‏.‏ وهذه الألفاظ لا معنى لها في كلام العرب؛ فكل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقى به، فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناها وأنه صحيح، لكره أن يدعو اللّه بغير الأسماء العربية‏.‏

 وسئل عمن أصيب بمرض، فإذا اشتد عليه الوجع، استغاث باللّه ـ تعالي ـ ويبكى‏.‏ فهل تكون استغاثته مما ينافي الصبر المأمور به أو هو / تضرع والتجاء ‏؟‏

فأجاب‏:‏

دعاء اللّه، واستغاثته به، واشتكاؤهإليه، لا ينافي الصبر المأمور به‏.‏ وإنما ينافيه في ذلك الاشتكاء إلى المخلوق‏.‏ ولقد قال يعقوب ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وقد روي عن طاووس‏:‏أنه كره أنين المريض‏.‏ وقال‏:‏ إنه شكوي، وقرئ ذلك على أحمد بن حنبل في مرض موته، فما أنَّ حتى مات‏.‏ ويروي عن السري السقطي أنه جعل قول المريض‏:‏ آه ‏!‏ من ذكر اللّه، وهذا إذا كان بينه وبين اللّه‏.‏ وهذا كما يروي عن عمر ابن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قرأ في صلاة الفجر‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏}‏‏.‏ ثم بكى، حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، فالأنين والبكاء من خشية اللّه،والتضرع والشكاية إلى اللّه ـ عز وجل ـ حسن، وأما المكروه فيكره‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وسئل عن رجل مبتلي سكن في دار بين قوم أصحاء، فقال بعضهم‏:‏ لا يمكننا مجاورتك، ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء، فهل يجوز إخراجه‏؟‏

/فأجاب‏:‏

نعم لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يورد ممرض على مصح‏)‏ فنهى صاحب الإبل المراض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح، مع قوله‏:‏ ‏(‏لا عدوي ولا طيرة‏)‏‏.‏ وكذلك روي أنه لما قدم مجذوم ليبايعه، أرسلإليه بالبيعة، ولم يأذن له في دخول المدينة‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلي، هل لأحد فيها أجر أم لا ‏؟‏ وهل عليه إثم إذا تركها، مع علمه أنه كان لا يصلي‏؟‏ وكذلك الذي يشرب الخمر، وما كان يصلي، هل يجوز لمن كان يعلم حاله أن يصلي عليه أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما من كان مظهراً للإسلام، فإنه تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة‏:‏ من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك؛ لكن من علم منه النفاق والزندقة، فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه‏.‏ وإن كان مظهراً للإسلام فإن اللّه نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين‏.‏ فقال‏:‏‏{‏وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏سَوَاء عليهمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏

وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لابد أن يصلي عليهم بعض المسلمين‏.‏ ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله ـ كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له‏.‏ وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع ـ كان عمله بهذه السنة حسناً‏.‏ وقد قال لجندب بن عبد اللّه البجلي ـ ابنه ـ‏:‏ إني لم أنم البارحة بشما، فقال‏:‏ أما إنك لو مت لم أصل عليك‏.‏ كأنه يقول‏:‏ قتلت نفسك بكثرة الأكل‏.‏ وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة، كان ذلك حسناً، ومن صلي على أحدهم يرجو له رحمة اللّه ـ ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة ـ كان ذلك حسناً‏.‏ ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين، كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت إحداهما‏.‏

وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وكل من أظهر الكبائر، فإنه تسوغ عقوبته بالهجر / وغيره، حتى ممن في هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن رجل يصلي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلي، هل يصلي عليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

مثل هذا ما زال المسلمون يصلون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النقاق يصلي المسلمون عليهم، ويغسلون، وتجري عليهم أحكام الإسلام‏.‏ كما كان المنافقون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإن كان من علم نفـاق شخص لم يجز له أن يصلي عليه، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على من علم نفاقه‏.‏

وأما من شك في حاله فتجوز الصلاة عليه، إذا كان ظاهر الإسلام‏.‏ كما صلي النبي صلى الله عليه وسلم على من لم ينه عنه، وكان فيهم من لم يعلم نفاقه، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ومثل هؤلاء لا يجوز النهي / عنه، ولكن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على المنافق لا تنفعه‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ألبس ابن أبي قميصه ـ‏:‏ ‏(‏وما يغني عنه قميصي من اللّه‏)‏‏.‏ وقال تعالي‏:‏ ‏{‏سَوَاء عليهمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏6‏]‏

وتارك الصلاة أحياناً، وأمثاله من المتظاهرين بالفسق‏.‏ فأهل العلم والدين إذا كان في هجر هذا، وترك الصلاة عليه منفعة للمسلمين بحيث يكون ذلك باعثا لهم على المحافظة على الصلاة عليه هجروه ولم يصلوا عليه، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه والغال، والمدين الذي لا وفاء له، وهذا شر منهم‏.‏

وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللّه‏:‏

 

فصل

قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع عن الصلاة على من عليه دين حتى يخلف وفاء، قبل أن يتمكن من وفاء الدين عنه، فلما تمكن صار هو يوفيه من عنده، فصار المدين يخلف وفاء‏.‏

/هذا، مع قوله فيما رواه أبو موسى عنه‏:‏ ‏(‏إن أعظم الذنوب عند اللّه أن يلقاه عبد بها، بعد الكبائر التي نهى عنها، أن يموت الرجل وعليه دين لا يدع قضاء‏)‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏ فثبت بهذا أن ترك الدين بعد الكبائر‏.‏

فإذا كان قد ترك الصلاة على المدين الذي لا قضاء له، فعلى فاعل الكبائر أولى، ويدخل في ذلك قاتل نفسه، والغال، لما لم يصل عليهما، ويستدل بذلك على أنه يجوز لذوي الفضل ترك الصلاة على ذوي الكبائر الظاهرة، والدعاةإلى البدع، وإن كانت الصلاة عليهم جائزة في الجملة‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏(‏الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين‏)‏ فأراد به أن صاحبه يوفاه‏.‏

 

وسئل عن رجل له مملوك هرب، ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينته وقتل نفسه، فهل يأثم سيده ‏؟‏ وهل تجوز عليه الصلاة‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، لم يكن له أن يقتل نفسه‏.‏ وإن كان سيده قد ظلمه، واعتدي عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه / أن يصبرإلى أن يفرج اللّه‏.‏

فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك، مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضربه بغير حق، أو يريد به فاحشة ونحو ذلك، فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسبإليه من المعصية‏.‏

ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه‏.‏ فقال لأصحابه‏:‏ ‏(‏صلوا عليه‏)‏‏.‏ فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه‏.‏ وأما أئمة الدين الذين يقتدي بهم‏.‏ فإذا تركوا الصلاة عليه زجرا لغيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل يدعي المشيخة‏:‏ فرأى ثعبانا، فقام بعض من حضر ليقتله، فمنعه عنه، وأمسكه بيده، على معنى الكرامة له، فلدغه الثعبان فمات‏.‏ فهل تجوز الصلاة عليه أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، ينبغي لأهل العلم والدين أن يتركوا الصلاة على هذا، ونحوه، وإن كان يصلي عليه عموم الناس‏.‏ كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على قاتل نفسه، وعلى /الغال من الغنيمة، وقال‏:‏ ‏(‏صلوا على صاحبكم‏)‏‏.‏ وقالوا لسمرة بن جندب‏:‏ إن ابنك البارحة لم يبت، فقال‏:‏ بشما‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أما إنه لو مات لم أصل عليه‏.‏ فبين سمرة أنه لو مات بشما لم يصل عليه؛ لأنه يكون قاتلا لنفسه بكثرة الأكل‏.‏

فهذا الذي منع من قتل الحية، وأمسكها بيده حتى قتلته، أولى أن يترك أهل العلم والدين الصلاة عليه؛ لأنه قاتل نفسه، بل لو فعل هذا غيره به، لوجب القود عليه‏.‏

وإن قيل‏:‏ إنه ظن أنها لا تقتل، فهذا شبيه عمله بمنزلة الذي أكل حتى بشم، فإنه لم يقصد قتل نفسه، فمن جني جناية لا تقتل غالباً، كان شبه عمد، وإمساك الحيات من نوع الجنايات‏.‏ فإنه فعل غير مباح‏.‏ وهذا لم يقصد بهذا الفعل إلا إظهار خارق العادة، ولم يكن معه ما يمنع انخراق العادة‏.‏

كيف وغالب هؤلاء كذابون ملبسون خارجون عن أمر اللّه ـ تعالي ـ ونهيه، يخرجون الناس عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، ويفسدون عقل الناس ودينهم ودنياهم، فيجعلون العاقل مولها كالمجنون، أو متولها بمنزلة الشيطان المفتون، ويخرجون الإنسان عن الشريعة التي بعث اللّه بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلى بدع مضادة لها، فيفتلون الشعور / ويكشفون الرؤوس، بدلاً عن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ترجيل الشعر، وتغطية الرأس ويجتمعون على المكاء والتصدية، بدلا عن سنة اللّه ورسوله من الاجتماع على الصلوات الخمس، وغيرها من العبادات، ويصلون صلاة ناقصة الأركان والواجبات، ويجتمعون على بدعهم المنكرة على أتم الحالات، ويصنعون اللاذن، وماء الورد، والزعفران، لإمساك الحيات، ودخول النار بأنواع من الحيل الطبيعية، والأحوال الشيطانية بدلا عما جعله اللّه لأوليائه المتقين من الطرق الشرعية والأحوال الرحمانية، ويفسدون من يفسدونه من النساء والصبيان بدلا عما أمر اللّه به من العفة وغض البصر، وحفظ الفرج، وكف اللسان‏.‏

ومن كان مبتدعا ظاهر البدعة، وجب الإنكار عليه‏.‏ ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته، ويدعوإليه‏.‏ وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عن رجل ركب البحر للتجارة‏:‏ فغرق، فهل مات شهيداً‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، مات شهيداً، إذا لم يكن عاصياً بركوبه، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الغريق شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والميت بالطاعون شهيد، والمرأة تموت في نفاسها شهيدة، وصاحب الهدم شهيد‏)‏‏.‏ وجاء ذكر غير هؤلاء‏.‏

وركوب البحر للتجارة جائز إذا غلب على الظن السلامة‏.‏ وأما بدون ذلك، فليس له أن يركبه للتجارة، فإن فعل، فقد أعان على قتل نفسه، ومثل هذا لا يقال‏:‏ إنه شهيد‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن رفع الصوت في الجنازة‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة، لا بقراءة، / ولا ذكر، ولا غير ذلك‏.‏ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا أعلم فيه مخالفاً‏.‏ بل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه نهى أن يتبع بصوت، أو نار‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ وسمع عبد اللّه بن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ رجلا يقول في جنازة‏:‏ استغفروا لأخيكم‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ لا غفر اللّه بعد‏.‏ وقال قيس بن عباد ـ وهو من أكابر التابعين من أصحاب على بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال‏.‏

وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة‏.‏

وأما قول السائل‏:‏ إن هذا قد صار إجماعا من الناس فليس كذلك، بل مازال في المسلمين من يكره ذلك، وما زالت جنائز كثيرة تخرج بغير هذا في عدة أمصار من أمصار المسلمين‏.‏

وأما كون أهل بلد، أو بلدين، أو عشر تعودوا ذلك، فليس هذا بإجماع، بل أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي نزل فيها القرآن والسنة، وهي دار الهجرة، والنصرة، والإيمان، والعلم، لم يكونوا يفعلوا ذلك، بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء، ولم ينقلوه عن النبي / صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه، لم يكن إجماعهم حجة عند جمهور المسلمين، وبعد زمن مالك وأصحابه ليس إجماعهم حجة، باتفاق المسلمين فكيف بغيرهم من أهل الأمصار‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إن هذا يشبه بجنائزإليهود والنصاري، فليس كذلك، بل أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات مع الجنائز، وقد شرط عليهم في شروط أهل الذمة ألا يفعلوا ذلك، ثم إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من طريق سلفنا الأول، وأما إذا اتبعنا طريق سلفنا الأول، كنا مصيبين، وإن شاركنا في بعض ذلك من شاركنا، كما إنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض، وفي غير ذلك‏.‏

 

وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن امرأة نصرانية، بعلها مسلم‏:‏ توفيت وفي بطنها جنين له سبعة أشهر‏.‏ فهل تدفن مع المسلمين‏؟‏ أو مع النصاري‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا تدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر النصاري، لأنه اجتمع مسلم وكافر، فلا يدفن الكافر مع المسلمين، ولا المسلم مع الكافرين، بل تدفن منفردة، ويجعل ظهرها إلى القبلة؛ لأن / وجه الطفل إلى ظهرها، فإذا دفنت كذلك كان وجه الصبي المسلم مستقبل القبلة، والطفل يكون مسلما بإسلام أبيه، وإن كانت أمه كافرة باتفاق العلماء‏.‏

 

وسئل ـ رحمه اللّه ـ مفتي الأنام، بقية السلف الكرام، تقي الدين بقية المجتهدين، أثابه اللّه، وأحسنإليه عن تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه، هل صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابته‏؟‏ وهل إذا لم يكن فيه شيء يجوز فعله أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذا التلقين المذكور قد نقل عن طائفة من الصحابة‏:‏أنهم أمروا به، كأبي أمامة الباهلي، وغيره‏.‏ وروي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مما لا يحكم بصحته، ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك، فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء‏:‏ إن هذا التلقين لا بأس به، فرخصوا فيه، ولم يأمروا به‏.‏ واستحبه طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد، وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك، وغيرهم‏.‏

/والذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن، ويقول‏:‏ ‏(‏سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل‏)‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقنوا أمواتكم لا إله إلا اللّه‏)‏‏.‏ فتلقين المحتضر سنة، مأمور بها‏.‏

وقد ثبت أن المقبور يسأل، ويمتحن، وأنه يؤمر بالدعاء له‏.‏ فلهذا قيل‏:‏ إن التلقين ينفعه، فإن الميت يسمع النداء‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه ليسمع قرع نعالهم‏)‏، وأنه قال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏، وأنه أمرنا بالسلام على الموتي‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه روحه حتى يرد عليه السلام‏)‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رحمه اللّّه‏:‏

هل يجب تلقين الميت بعد دفنه أم لا ‏؟‏ وهل القراءة تصل إلى الميت‏؟‏

فأجاب‏:‏

تلقينه بعد موته ليس واجباً بالإجماع‏.‏ ولا كان من / عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه‏.‏ بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة، كأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع‏.‏

فمن الأئمة من رخص فيه كالإمـام أحمد‏.‏ وقد استحبه طائفة من أصحابه، وأصحاب الشافعي‏.‏ ومن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنه بدعة‏.‏ فالأقـوال فيه ثلاثة‏:‏ الاستحباب، والكراهة، والإباحة، وهذا أعدل الأقوال‏.‏

فأما المستحب الذي أمر به وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الدعاء للميت‏.‏

وأما القراءة على القبر، فكرهها أبو حنفية، ومالك، وأحمد في إحدي الروايتين‏.‏ ولم يكن يكرهها في الأخري‏.‏ وإنما رخص فيها لأنه بلغه أن ابن عمر أوصي أن يقرأ عند قبره بفواتح البقرة، وخواتيمها‏.‏وروي عن بعض الصحابة قراءة سورة البقرة‏.‏ فالقراءة عند الدفن مأثورة في الجملة، وأما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل‏:‏ هل يشرع تلقين الميت الكبير والصغير أو لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما تلقين الميت، فقد ذكره طائفة من الخراسانيين من أصحاب الشافعي، واستحسنوه ـ أيضاً ـ ذكره المتولي والرافعي، وغيرهما‏.‏ وأما الشافعي نفسه، فلم ينقل عنه فيه شيء‏.‏

ومن الصحابة من كان يفعله ـ كأبي أمامة الباهلي، وواثلة بن الأسقع ـ وغيرهما من الصحابة‏.‏

ومن أصحاب أحمد من استحبه‏.‏ والتحقيق أنه جائز، وليس بسنة راتبة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن الختمة التي تعمل على الميت، والمقرئين بالأجرة‏.‏ هل قراءتهم تصل إلى الميت‏؟‏ وطعام الختمة يصل إلى الميت أم لا ‏؟‏ وإن كان / ولد الميت يداين لأجل الصدقة إلى الميسور‏:‏ تصل إلى الميت ‏؟‏

فأجاب‏:‏

استئجار الناس ليقرؤوا، ويهدوه إلى الميت، ليس بمشروع، ولا استحبه أحد من العلماء، فإن القرآن الذي يصل ما قرئ للّه‏.‏ فإذا كان قد استؤجر للقراءة للّه، والمستأجر لم يتصدق عن الميت، بل استأجر من يقرأ عبادة للّه ـ عز وجل ـ لم يصل إليه‏.‏

لكن إذا تصدق عن الميت على من يقرأ القرآن، أو غيرهم، ينفعه ذلك باتفاق المسلمين‏.‏ وكذلك من قرأ القرآن محتسباً، وأهداه إلى الميت، نفعه ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏